سورة الإنسان - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإنسان)


        


{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسل وأغلالا وَسَعِيراً}.
اعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين أتبعهما بالوعيد والوعد، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الاعتداد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيداً حاضراً متى احتيج إليه، كقوله تعالى: {هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] وأما السلاسل فتشد بها أرجلهم، وأما الأغلال فتشد بها أيديهم إلى رقابهم، وأما السعير فهو النار التي تسعر عليهم فتوقد فيكونون حطباً لها، وهذا من أغلظ أنواع الترهيب والتخويف.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الجحيم بسلاسلها وأغلالها مخلوقة، لأن قوله تعالى: {أَعْتَدْنَا} إخبار عن الماضي، قال القاضي: إنه لما توعد بذلك على التحقيق صار كأنه موجود، قلنا: هذا الذي ذكرتم ترك للظاهر فلا يصار إليه إلا لضرورة.
المسألة الثالثة: قرئ (سلاسلاً) بالتنوين، وكذلك {قَوَارِيرَاً * قَوَارِيرَاً} [الإنسان: 15، 16] ومنهم من يصل بغير تنوين، ويقف بالألف فلمن نون وصرف وجهان:
أحدهما: أن الأخفش قال: قد سمعنا من العرب صرف جميع مالا ينصرف، قال: وهذا لغة الشعراء لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك الثاني: أن هذه الجموع أشبهت الآحاد، لأنهم قالوا صواحبات يوسف، فلما جمعوه جمع الآحاد المنصرفة جعلوها في حكمها فصرفوها، وأما من ترك الصرف فإنه جعله كقوله: {لَّهُدّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد} [الحج: 40] وأما إلحاق الألف في الوقف فهو كإلحاقها في قوله: {الظنونا} [الأحزاب: 10] و{الرسولا} [الأحزاب: 66] و{السبيلا} [الأحزاب: 67] فيشبه ذلك بالإطلاق في القوافي.
ثم إنه تعالى ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} الأبرار جمع بر، كالأرباب جمع رب، والقول في حقيقة البر قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله} [البقرة: 177] ثم ذكر من أنواع نعيمهم صفة مشروبهم، فقال: {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} يعني من إناء فيه الشراب، ولهذا قال ابن عباس ومقاتل: يريد الخمر، وفي الآية سؤالان:
السؤال الأول: أن مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً، فما السبب في ذكره ههنا؟
الجواب: من وجوه:
أحدها: أن الكافور اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده، ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته، فالمعنى أن ذلك الشراب يكون ممزوجاً بماء هذه العين.
وثانيها: أن رائحة الكافور عرض فلا يكون إلا في جسم، فإذا خلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب سمي ذلك الجسم كافوراً، وإن كان طعمه طيباً.
وثالثها: أي بأس في أن يخلق الله تعالى الكافور في الجنة لكن من طعم طيب لذيذ، ويسلب عنه ما فيه من المضرة؟ ثم إنه تعالى يمزجه بذلك المشروب، كما أنه تعالى سلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضار.
السؤال الثاني: ما فائدة كان في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كافورا}؟
الجواب: منهم من قال: إنها زائدة، والتقدير من كأس مزاجها كافوراً، وقيل: بل المعنى كان مزاجها في علم الله، وحكمه كافورا.


{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}
المسألة الأولى: إن قلنا: الكافور اسم النهر كان عيناً بدلاً منه، وإن شئت نصبت على المدح، والتقدير أعني عيناً، أما إن قلنا: إن الكافور اسم لهذا الشيء المسمى بالكافور كان عيناً بدلاً من محل من كأس على تقدير حذف مضاف، كأنه قيل: يشربون خمراً خمر عين، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
المسألة الثانية: قال في الآية الأولى: {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} [الإنسان: 5] وقال هاهنا: {يشرب بها}، فذكر هناك من وهاهنا الباء، والفرق أن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته.
وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل.
المسألة الثالثة: قوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} عام فيفيد أن كل عباد الله يشربون منها، والكفار بالاتفاق لا يشربون منها، فدل على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان، إذا ثبت هذا فقوله: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} [الزمر: 7] لا يتناول الكفار بل يكون مختصاً بالمؤمنين، فيصير تقدير الآية ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، فلا تدل الآية على أنه تعالى لا يريد كفر الكافر.
قوله تعالى: {يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} معناه يفجرونها حيث شاؤا من منازلهم تفجيراً سهلا لا يمتنع عليهم واعلم أنه سبحانه لما وصف ثواب الأبرار في الآخرة شرح أعمالهم التي بها استوجبوا ذلك الثواب.


{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)}
فالأول قوله تعالى: {يُوفُونَ بالنذر} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الإيفاء بالشيء هو الإتيان به وافياً، أما النذر فقال أبو مسلم: النذر كالوعد، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر، وإن كان من الله تعالى فهو وعد، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن يقول لله عليَّ كذا وكذا من الصدقة، أو يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله تعالى مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي، أو رد غائبي فعليَّ كذا كذا، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر، كما إذا قال: إن دخل فلان الدار فعليَّ كذا، فمن الناس من جعله كاليمين، ومنهم من جعله من باب النذر، إذا عرفت هذا، فنقول للمفسرين في تفسير الآية أقوال: أولها: أن المراد من النذر هو النذر فقط، ثم قال الأصم: هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات. لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان بما أوجبه الله عليه أوفى، وهذا التفسير في غاية الحسن.
وثانيها: المراد بالنذر هاهنا كل ما وجب عليه سواء وجب بإيجاب الله تعالى ابتداء أو بأن أوجبه المكلف على نفسه فيدخل فيه الإيمان وجميع الطاعات، وذلك لأن النذر معناه الإيجاب.
وثالثها: قال الكلبي: المراد من النذر العهد والعقد، ونظيره قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] فسمى فرائضه عهداً، وقال: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] سماها عقوداً لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان.
المسألة الثانية: هذه الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر، لأنه تعالى عقبه بيخافون يوماً وهذا يقتضي أنهم إنما وفوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً، وتأكد هذا بقوله تعالى: {وَلاَ تَنقُضُواْ الإيمان} بعد توكيدها [النحل: 91] وبقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] فيحتمل ليوفوا أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم.
المسألة الثالثة: قال الفراء: وجماعة من أرباب المعاني. كان في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} [الإنسان: 5] زائدة وأما هاهنا فكان محذوفة، والتقدير كانوا يوفون بالنذر.
ولقائل أن يقول: إنا بينا أن كان في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا} [الإنسان: 5] ليست بزائدة، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها، وذلك لأنه تعالى ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي سيشربون، فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، ثم قال: السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنهم الآن يوفون بالنذر.
النوع الثاني: من أعمال الأبرار التي حكاها الله تعالى عنهم قوله تعالى: {ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}.
واعلم أن تمام الطاعة لا يحصل إلا إذا كانت النية مقرونة بالعمل، فلما حكى عنهم العمل وهو قوله: {يُوفُونَ} حكى عنهم النية وهو قوله: {ويخافون يَوْماً} وتحقيقه قوله عليه السلام:
إنما الأعمال بالنيات وبمجموع هذين الأمرين سماهم الله تعالى بالأبرار وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله، وكل ما كان فعلاً لله فهو يكون حكمة وصواباً، وما كان كذلك لا يكون شراً، فكيف وصفها الله تعالى بأنها شر؟
الجواب: أنها إنما سميت شراً لكونها مضرة بمن تنزل عليه وصعبة عليه، كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شروراً.
السؤال الثاني: ما معنى المستطير؟
الجواب: فيه وجهان:
أحدهما: الذي يكون فاشياً منتشراً بالغاً أقصى المبالغ، وهو من قولهم: استطار الحريق، واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر، فإن قيل: كيف يمكن أن يقال: شر ذلك اليوم مستطير منتشر، مع أنه تعالى قال في صفة أوليائه: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103]، قلنا: الجواب من وجهين:
الأول: أن هول القيامة شديد، ألا ترى أن السموات تنشق وتنفطر وتصير كالمهل، وتتناثر الكواكب، وتتكور الشمس والقمر، وتفرغ الملائكة، وتبدل الأرض غير الأرض، وتنسف الجبال، وتسجر البحار وهذا الهول عام يصل إلى كل المكلفين على ما قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] وقال: {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [المزمل: 17] إلا أنه تعالى بفضله يؤمن أولياءه من ذلك الفزع والجواب الثاني: أن يكون المراد أن شر ذلك اليوم يكون مستطيراً في العصاة والفجار.
وأما المؤمنون فهم آمنون، كما قال: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 44] إلا أن أهل العقاب في غاية الكثرة بالنسبة إلى أهل الثواب، فأجرى الغالب مجرى الكل على سبيل المجاز.
القول الثاني: في تفسير المستطير أنه الذي يكون سريع الوصول إلى أهله، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع.
السؤال الثالث: لم قال: {كان شره مستطيراً}، ولم يقل: وسيكون شره مستطيراً؟
الجواب: اللفظ وإن كان للماضي، إلا أنه بمعنى المستقبل، وهو كقوله: {وَكَانَ عَهْدُ الله مسؤلا} [الأحزاب: 15] ويحتمل أن يكون المراد إنه كان شره مستطيراً في علم الله وفي حكمته، كأنه تعالى يعتذر ويقول: إيصال هذا الضرر إنما كان لأن الحكمة تقتضيه، وذلك لأن نظام العالم لا يحصل إلا بالوعد والوعيد، وهما يوجبان الوفاء به، لاستحالة الكذب في كلامي، فكأنه تعالى يقول: كان ذلك في الحكمة لازماً، فلهذا السبب فعلته.
النوع الثالث: من أعمال الأبرار قوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8